| قافلة رحل 1971 - Michel-georges bernardCC BY-SA 3.0 |
تخيل اسماً عائلياً نادراً لدرجة أنه لا يكاد يظهر إلا كبصمة خافتة وشبه ممحية على خريطة العالم... هذا هو لغز "بشوندة" أو كما يكتب bachounda.
إنها حكاية تبدأ جذورها وتعود إلى المنطقة المغاربية الوسطى (الجزائر)، حيث تقطن عائلتان كبيرتان تفصل بينهما مسافات شاسعة: إحداهما في الشمال المزدهر، والأخرى متجذرة بعمق في رمال الجنوب، وتحديداً في منطقة الجلفة العريقة.
لكن، كيف لاسم بهذا الندرة أن يتمدد؟ لا تلبث أن تجد بصمته العائلية الوحيدة في شمال إفريقيا الغربي (المغرب العربي)، ثم يقفز فجأة وبشكل غامض ليظهر ممثلاً بعائلتين فقط كظلال باهتة داخل القارة الأوروبية الشاسعة، بل ويمتد صداه ليلامس حدود العالم الجديد في أمريكا!
ما هي القصة المجهولة التي ربطت كثبان الجنوب الجزائري بالخارطة الأوروبية وما وراء المحيط؟ وما هو الأصل الذي يقف وراء هذا التوزيع الجغرافي الفريد؟ دعونا نبدأ رحلة الكشف عن الأصول والتاريخ الآسر لعائلة بشوندة.
الجذور العرقية: من الساقية الحمراء إلى الجلفة
تستمد عائلة بشوندة جذورها العريقة من قبيلة "أولاد نائل" المرموقة، التي تتخذ من الجلفة مركزاً لها. وأولاد نائل ليست مجرد قبيلة، بل هي كيان تاريخي محترم تعود أصوله الأولى إلى الساقية الحمراء، المنطقة الواقعة اليوم في الصحراء الغربية. لقد عُرفت هذه القبيلة بثراء تراثها الثقافي، وعبرت القرون تاركة تأثيراً ملحوظاً في نسيج الصحراء الاجتماعي.
الأجداد الأوائل وشهادات المؤرخين
يرتبط تاريخ أولاد نائل، وبالتالي تاريخ عائلة بشوندة، ارتباطاً وثيقاً بشخصية الجد المؤسس: سيدي عبد الله الخرشوفِي. وتتعدد الروايات التاريخية حول تسلسل هذا النسب:
رواية العشماوي (1678م): يذكر أن سيدي عبد الله هو سلف "الرحامة" من أولاد نائل في الصحراء، وكان له ثلاثة أبناء لعبوا دوراً حاسماً في توسع القبيلة، وهم: أبو ليث، والسكنَاوي، وعبد الرحمن.
رواية أرنو (1872م): يشير إلى أربعة أبناء لسيدي نائل: أحمد، وزكري، ويحيى، ومالك. ويعتبر "مالك" شخصية محورية، كونه السلف لعدة سلالات مؤثرة (سي محمد، سعد، يحيى، وعامر).
رواية مسعودي سي عطية (1980م): يضيف تفصيلاً بأن لنائل خمسة أبناء، ويؤكد أن مالك هو والد أحمد.
أولاد نائل: الهجرة الهلالية والعمق العربي
تُعد قبيلة أولاد نائل من القبائل العربية الأصيلة المنحدرة من "الهجرة الهلالية" الكبرى، وهي تشكل اليوم الغالبية العظمى من النسيج القبلي في مناطق واسعة من الجزائر.
أثر الهجرات العربية
بينما يرى المؤرخون أن الهجرة العربية الأولى بقيادة سيدي عقبة في منتصف القرن السابع لم تحدث تغييراً ديموغرافياً جذرياً، فإن الهجرة الهلالية الكبرى في منتصف القرن الحادي عشر أحدثت تحولاً عميقاً في المشهد العرقي والثقافي، مما أدى إلى تعريب المنطقة تدريجياً. كان طلائع هذه الهجرات قبائل "الرياح"، تبعتها قبائل بوعيش، وعزيز، وبني حسان، ومويدات، وزناكرة، مما دفع السكان الأصليين لجبل مشنتل (الجبل الصحراوي حالياً) نحو الغرب.
سلسلة النسب الذهبية
توثق المصادر أصول أولاد نائل بالتسلسل التالي: نائل بن فرغ بن حميص بن عروة بن زغبة بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر.
وقد خلّد العلامة ابن خلدون ذكر هذه القبائل في كتاباته قائلاً:
"تتألف قبيلة زغبة من عدد كبير من الفروع، مثل يزيد، وحسين، ومالك، وعامر، وعروة. وقد تقاسمت هذه الشعوب المغرب الأوسط (الجزائر)... تشكل قبيلة عروة بن زغبة فرعين... وينقسم الحميص إلى ثلاث عائلات كبرى: عبيد الله، وفراغ، وياكدان. وقد تحالف بنو نائل، وهم فرع من فراغ، مع أولاد يحيى، وهم فرع من عامر، المستقرين في جبل راشد."
ملحمة التوسع والانتشار
لم يبقَ أحفاد سيدي نائل في مكان واحد، بل تفرقوا بحثاً عن الموارد والحياة، تاركين بصمات لا تُمحى في كل أرض وطأتها أقدامهم.
الرحالة الثلاثة:
توجه أبو ليث نحو منطقة البرانس.
استقر السكنَاوي في منطقة القبائل الصغرى.
هاجر عبد الرحمن نحو جبال البابور. هذه التنقلات خلقت جسوراً ثقافية وروابط دم مع القبائل الأخرى.
أبناء زكري ويحيى:
اتجه أحفاد زكري جنوباً شرقاً (حول بسكرة وبوسعادة)، ومنهم تفرعت عروش: أولاد حركات، أولاد رابح، أولاد رحمان، أولاد أحمد، وأولاد خالد.
بقي أحفاد يحيى حول "عين الريش"، ومنهم "أولاد فرج" الذين جاوروا قبائل أخرى، و"أولاد عيسى" الذين انقسموا بين بوسعادة وجبل بوقحيل.
سلالة مالك في الزهرز: استقر أحفاد مالك في منطقة "الزهرز" شمال الجلفة (حاسي بحبح، زعفران، عين معبد). ومن نسل ابنه سالم، تفرعت قبائل كبرى مثل "أولاد سعد بن سالم" (التي تضم أولاد رقاد، وخناثة، وطوابة). ومن السلالة ذاتها برز عبد الرحمن (الابن الرابع لسالم) كمرابط شهير، لم ينجب سوى محمد، الذي يُعد أصل "أولاد سي محمد". وقد تزوج محمد بثلاث نساء (أم هانئ، ضياء، وشليحة)، أسست كل واحدة منهن فروعاً قبلية عريقة مثل "أولاد بوعبد الله" و"أولاد الغويني".
بشوندة.. إرث حي
إن تاريخ عائلة بشوندة، المتشابك عضوياً مع تاريخ أولاد نائل العظيم، هو ملحمة بطولية تروي قصص الهجرة، والتكيف، والصمود عبر الزمن. ساهم كل جيل في صياغة هوية غنية، صُقلت بالتنقلات الجريئة والتحالفات الاستراتيجية.
واليوم، تواصل عائلة بشوندة تكريم هذا الإرث، حاملة بكل فخر شعلة أسلافها. إن حمل اسم "بشوندة" ليس مجرد لقب، بل هو حمل لتراث حي، وتاريخ نُسج من الشجاعة والفخر، وهو أمانة يجب الاعتزاز بها ونقلها للأجيال القادمة، ليبقى هذا الاسم اللغز حياً وشامخاً عبر العصور.
